عماد أبو غازى يكتب: أسئلة العميد الماضي الذى مازال حيً

طه حسين
طه حسين

إذا كنا نحى هذا العام الذكرى الخمسين لرحيل طه حسين، فهناك مناسبة أخرى مرتبطة به تمر هذا العام؛ ففى شهر ديسمبر يكون قد مر خمسة وثمانون عامًا على صدور كتابه المهم «مستقبل الثقافة فى مصر»، وقد أثار الكتاب عند صدوره معارك فكرية واسعة النطاق، كما طرح على العقل المصرى أسئلة مهمة، ورغم مرور كل هذه السنوات إلا أن أصداء هذه المعارك ما زالت تتردد إلى يومنا هذا، كما أن الأسئلة التى طرحها الكتاب ما زالت ملحة فى حياتنا لم تلق إجابة بعد.

من اللافت للنظر أن الكثير من القضايا التى طرحها طه حسين فى كتابه ما زالت مطروحة للنقاش، وبعض المشكلات التى تعرض لها وقدم تصوراته لحلولها عالقة إلى الآن لم تجد لها حلًا، فالكتاب رغم مرور كل هذه السنوات ما زال مثيرًا للنقاش، ليس فقط باعتباره علامة من علامات تاريخ الفكر والثقافة فى مصر، بل كذلك لأن القضايا التى طرحها حية إلى الآن.

اقرأ ايضاً| محمد شعير: دروس العميد

‏ لقد استحضرنا الكتاب عند المنعطفات المهمة واللحظات الحرجة فى تاريخنا، ففى عام 1992، وفى مواجهة موجة الإرهاب التى شهدتها مصر، صدرت طبعة مصورة عن الطبعة الأولى للكتاب، وفى عام 1996 صدرت طبعة ثانية من الكتاب بمناسبة اقتراب الذكرى الستين لصدور طبعته الأولى، وفى أعقاب ثورة 25 يناير صدرت عدة طبعات للكتاب، ومازالت الطبعات تتوالى.

واليوم ونحن نتذكر طه حسين بعد خمسين عامًا من رحيله، علينا أن نتوقف عند الكلمات التى ختم بها طه حسين كتابه:

«فإن مصر التى انتصرت على الخطوب، وثبتت للأحداث وظفرت بحقها من أعظم قوة فى الأرض فى هدوء وأناة وثقة بالنفس وإيمان بالحق، خليقة أن تنتصر على نفسها وتظهر على ما يعترض طريقها من العقاب، وترد إلى نفسها مجدًا قديمًا عظيمًا لم تنسه ولن تنساه».

ونتساءل: هكذا كان الحلم وكان الأمل، فترى إين نحن منهما بعد مرور خمسة وثمانين عامًا؟

وعلينا أن نطرح على أنفسنا مجموعة من الأسئلة التى طرحها الرجل لكنها لم تجد إجابة شافية إلى الآن، لن نناقش كتاب طه حسين بل نناقش الأسئلة الجوهرية التى طرحها الرجل على معاصريه، لكنها لم تلق إجابة بعد.

أول هذه الأسئلة وأهمها: سؤال المستقبل؛ هل نملك رؤية واضحة للمستقبل؟ هل وضعنا سيناريوهات بديلة لمستقبل هذا الوطن فى عالم يموج بالمتغيرات؟

ربما يمكن أن نعتبر أن كتاب الدكتور طه حسين الذى صدر سنة 1938 «مستقبل الثقافة فى مصر» من أقدم الخطط المستقبلية على المستوى القطاعى فى مجتمعنا، ورغم أنه لم يكن يشغل موقع المسئولية التنفيذية فى ذلك الحين إلا أنه من واقع خبراته الحياتية ورؤيته كمفكر منحاز للتقدم؛ نجح فى أن يقدم هذه الخطة المستقبلية التى سعى إلى تنفيذ بعضها عندما تولى منصب وزير المعارف العمومية فى حكومة الوفد الأخيرة (12 يناير 1950-27 يناير 1952).


 

فماذا عن خططنا المستقبلية منذ ثلاثينيات القرن الماضي؟ وما مدى جديتها؟ وما قدر التزامنا بها؟

السؤال الثاني: سؤال الهُوية، وأظنه سؤال مثير للاستغراب، ففى بلد يمتد تاريخه المكتوب لما يزيد على خمسة آلاف عام ما زلنا نتساءل حول الهوية!

وفى مستقبل الثقافة فى مصر انطلق طه حسين أيضًا من الماضى ليبنى تصوراته للمستقبل، مستقبل الثقافة، التى رأى فيها مدخلًا لمستقبل الوطن؛ لقد بدأ طه حسين كتابه بالبحث فى الهُوية، هُوية مصر وانتمائها، ربما كانت الفصول التى تدور حول الهوية هى أكثر ما أثار الجدل والنقاش حول كتاب مستقبل الثقافة فى مصر، فى حين صدور الكتاب، وإلى الآن، بل حول طه حسين نفسه.

ناقش طه حسين قضية الهوية فى وقت كانت مصر قد انسلخت حديثًا انسلاخًا كاملًا من الإطار العثمانى، واستكملت بناء هويتها القومية المصرية بعد ثورة 1919 التى توجت نضالًا ممتدًا من أواخر القرن الثامن عشر، لكن كانت هناك بقايا لمقاومة فكرة القومية المصرية، وكانت هناك تيارات ترفض الجديد وتحاول إعادة مصر إلى زمن سابق، وإذا كان البحث عن الهُوية مفهومًا فى تلك الفترة التى كانت مصر تمر فيها بمنعطفٍ تاريخيٍ، فالغريب أن يستمر البحث عن هويتنا بعد مرور كل هذه السنوات، وأن تصبح قضية الهوية محورًا للصراع السياسى والاستقطاب المجتمعي.

ثالث الأسئلة يدور حول الموقف من التراث، هل تراثنا قابل للنقد؟ هل نجحنا أن نعيش عصرنا فكرًا وممارسةً، أم أننا مازلنا رهائن للماضي؟

لقد كان طه حسين مفكرًا مهمومًا بالمستقبل، مستقبل وطنه، ومستقبل الأجيال الجديدة، ومستقبل الفكر والعلم والثقافة، وهو مثل الكثير من المستقبليين ينطلق إلى المستقبل من دراسة الماضى، وكان ينظر إلى الماضى من زاويتين: الزاوية الأولى الماضي التاريخ التراث كحجر عثرة فى طريق التقدم بسبب أسلوب تعاملنا معه، وتحويله إلى مقدس غير قابل للنقد والنقض، والزاوية الثانية الماضي التاريخ التراث كنقطة انطلاق نحو المستقبل نتعامل معه برؤية نقدية ونأخذ منه بقدر احتياجنا ونبنى عليه.

للأسف ما زلنا نعيش فى مجتمع ماضوى تحكم تفكيرنا أفكار الموتى من قبورهم، مجتمع يقدس الماضى ويتركه يتحكم فى حاضرنا ومستقبلنا، مجتمعنا يتعارك حول أى ماضٍ ينبغى أن نستلهمه ونجعل منه مرجعية لحياتنا المعاصرة ولمستقبلنا، بدلًا من أن تدور معركتنا حول مستقبل جديد، ما زلنا عالقين فى فخ الماضي.

كيف نواجه العلم الكاذب؟

سؤال رابع طرحه طه حسين وما زلنا فى حاجة إلى الإجابة عليه، كان طه حسين يرى فى العلم الكاذب شرًا يهدد الأجيال الصاعدة، فقال: «إذا كان هناك شر يجب أن نحمى منه أجيال الشباب فهو هذا العلم الكاذب، الذى يكتفى بظواهر الأشياء ولا يتعمق حقائقها، فلننظر كيف نرد عن أجيال الشباب هذا الشر، وليس إلى ذلك سبيل، إلا أن نقيم ثقافة الشباب على أساس متين.»

هل نجحنا بعد أكثر من ثمانين عامًا أن نتمكن أو نُمكن الأجيال الجديدة من أدوات مواجهة العلم الكاذب؟ أظن أننا فى موقف أسوأ مما كان عليه الحال عندما كتب طه حسين عبارته تلك، فقد أتاحت ثورتا المعلومات والاتصالات المجال واسعًا أمام نشر العلم الكاذب من خلال أدوات العصر الجديد.

هل نحن فى مجتمع يحترم قيمة العمل؟

فى عام 1938 كان أحد هموم طه حسين الدعوة لاحترام «العمل الصادق النافع»، كان ينادى بضرورة «أن نأخذ أمورنا بالحزم والجد، وأن نعرض عن الألفاظ التى لا تغنى، إلى الأعمال التى تغنى، وأن نبدأ فى إقامة حياتنا الجديدة من العمل الصادق النافع على أساس متين.« فهل يحترم مجتمعنا بعد مرور هذه السنوات قيمة العمل؟

أسئلة التعليم:

تشكل أسئلة التعليم المحور الأساسى عند طه حسين؛ واللافت للنظر أننا بعد مرور ثمانية عقود على مشروع طه حسين أصبحنا فى وضع متراجع فى التعليم عما كان عليه الحال زمن صدور الكتاب، فالقسم الأكبر والأهم من كتابه يناقش فيه قضايا التعليم فى مصر، وما يعانيه من مشكلات، وما يقترحه من حلول لها، واعتبر أن التعليم يلعب الدور الأكبر فى التكوين الفكرى والمعرفى للإنسان.

ويدور فكر طه حسين عن التعليم حول ثلاثة محاور رئيسية، أولها التعليم والهوية القومية، وثانيها دور التعليم فى الحفاظ على الديمقراطية والاستقلال الوطنى، وثالثها التعليم والعدالة الاجتماعية، ومن خلال هذه الركائز الثلاثة فى فكر الرجل نستطيع أن نفهم كل أفكاره حول المستقبل المرجو للتعليم.

فهل نملك اليوم تعليمًا يسهم فى تكوين وعى الأجيال بانتمائهم الوطني؟

وهل نجحت منظومة التعليم فى بناء الديمقراطية وحمايتها؟ وهل لدينا اليوم عدالة اجتماعية فى نظامنا التعليمي؟

هل نجحنا فى دمج منظومة التعليم الدينى داخل منظومة تعليمية وطنية؟

وهل نملك جامعات تتمتع بالاستقلال الصحيح كما دعا إليه طه حسين؟ وهل لدينا احترام لحرية البحث العلمي؟ وهل ننفق على التعليم والبحث العلمى ما ينبغى أن ننفقه؟

أزعم أن الإجابة على كل هذه الأسئلة ليست فى صالحنا.

أسئلة الثقافة:

أما مستقبل الثقافة فى مصر الذى يحمل كتاب طه حسين عنوانه فقد رسم له خارطة طريق لصيقة الصلة بمستقبل مصر المستقلة الديمقراطية، إنه مستقبل يرتكز على تكوين المواطن المصرى بالتعليم والثقافة؛ ويؤكد طه حسين أن الثقافة ليست محصورة فى المدارس والمعاهد، وأن تنظيم شئون التعليم وحده ليس كافيًا من أجل تحقيق المستقبل الذى نرنو إليه ل الثقافة المصرية، وهو يرى أن العمل الثقافى مسئولية مشتركة بين الدولة والشعب، ينبغى أن تتجه نحو تمكين المثقفين من أن ينتجوا ما يضيف إلى الثقافة المصرية ويجددها، وأن يتعاونوا على تحقيق الصلة بين مصر والثقافات العالمية، ويدعو لتطوير العمل الأهلى فى مجال الثقافة ودعمه. فكيف يمكن أن نرى حال ثقافتنا فى عالم اليوم؟ ما الذى حققناه؟ وما الذى فشلنا فى تحقيقه؟ وهل ثقافتنا اليوم بخير؟